الاثنين، 22 ديسمبر 2008

كاسباروف.. العازف على طاولة الشطرنج

الشطرنج ليست مجرد لعبة تتكون من 32 قطعة صماء و64 مربعًا يتجسد فيها ميدان المعركة بين خصمين، ولكنها شيء آخر لا يشعر به إلا من مارس تلك اللعبة وعشقها، فبعد الحركات الافتتاحية الثلاث الأولى تتفتح احتمالات الحركة التالية على أكثر من 9 ملايين حركة مختلفة، وهذه مسألة مخيفة لمن لم يعتد المخاطرة واتخاذ القرارات الحاسمة، فأقوى اللاعبين لا يقدر على أن يفكر لأبعد من 15 حركة مقدمًا، وبهذا يصل اللاعب إلى نقطة يتحتم عليه فيها أن يتجاوز قدراته الذهنية التحليلية الواعية ليترك نفسه يدرك الأمور وفقًا لقوى الحدس واللاوعي، وفي هذه الحالة يتعامل اللاعب بأحاسيسه المباشرة ومشاعره لتتحول الرقعة الصغيرة إلى عالم واسع من الأسرار والطلاسم لا يستطيع سبر أغواره إلا القليل، ومن هؤلاء جاري كاسباروف أصغر من حصل على لقب بطل العالم في الشطرنج وهو لم يكمل عامه الثاني والعشرين من عمره بعد.
كاسباروف في سطور
غاري كيموفيتش كاسباروف بطل العالم الثالث عشر في الشطرنج ولد في مدينة باكو بأذربيجان عام 1963 اسمه الحقيقي غاري وينستون، ولكنه غيّره فيما بعد إلى كاسباروف؛ ليكون الاسم أكثر روسية واشتقه من اسم عائلة أمه الأرمينية كاسباريان.
تعلم الشطرنج في سن الخامسة وفاز في سن الحادية عشرة ببطولة أذربيجان، ثم بطولة العالم للناشئين 1980، وحصل على لقب أستاذ دولي كبير في نفس العام. التحق منذ بداياته بمدرسة بطل العالم السابق بوتفنيك وكان متميزًا فيها.
في عام 1984 فاز في تصفيات بطولة العالم على لاعبين كبار مثل بطل العالم السابق سيمسلوف؛ ليصبح المتحدي الرسمي لبطل العالم في وقتها أناتولي كاربوف الذي استمرت المباراة معه 48 دورًا حتى قرر رئيس الاتحاد الدولي إيقافها بسبب سوء حالة كاربوف الصحية على أن تلعب بطولة عالم جديدة في العام التالي. ويفوز فيها كاسباروف؛ ليتوج بطلاً للعالم ويؤكد فوزه بفوز آخر عام 1986 ليحتفظ باللقب.
في عام 1987 يلتقي كاسباروف وكاربوف ويتعادل الخصمان ليحتفظ كاسباروف بلقبه حسب قانون الاتحاد الدولي، ثم للمرة الخامسة والأخيرة يلتقيان عام 1990 ليفوز كاسباروف، ويحتفظ باللقب مرة أخرى.
في عام 1993 يتأهل البريطاني نايجل شورت لملاقاة كاسباروف، ولكن يختلف الاثنان مع الاتحاد الدولي فتلعب المباراة خارج الاتحاد الدولي، ويفوز كاسباروف على نايجل شورت ليحتفظ بلقبه.
في عام 1995 يلاقي النجم الهندي الصاعد فسواناثان أناند على اللقب العالمي وكان مكان اللقاء ما كان يعرف بمركز التجارة العالمي، واستطاع كاسباروف أن يفوز على أناند ليحتفظ كاسباروف بلقبه بعد جهد مشرف من أناند.
في عام 1996 يلاقي كاسباروف الكمبيوتر الخارق ديب بلو فيفوز كاسباروف عليه رغم أن هذا الكمبيوتر كان يحسب 180 مليون نقلة في الثانية الواحدة!.
في عام 1997 يلتقي كاسباروف مع نسخة متطورة من ديب بلو 2 وهو النسخة المطورة، وفي هذه المرة يهزم الكمبيوتر كاسباروف مسجلاً تفوق الآلة على الإنسان في هذه المباراة.
عام 2000 يلاقي كاسباروف النجم الروسي فلاديمير كرامنيك على اللقب العالمي في لندن وتحدث الصاعقة، ويفوز كرامنيك بثماني نقاط ونصف مقابل ست ونصف لكاسباروف، وخلال خمسة عشر دورًا لم يستطع كاسباروف الفوز بدور واحد وهو شيء لم يحدث في تاريخ اللعبة منذ عام 1921.
عام 2003 يلتقي كاسباروف مع الكمبيوتر الألماني فريتز وتنتهي بالتعادل، وكذلك مع الكمبيوتر ديب جونيور وتنتهي المباراة أيضًا بالتعادل.
في عام 2005 بعد فوزه ببطولة ليناريس المرموقة التي تعتبر كويمبيلدون في دنيا الشطرنج يقرر كاسباروف الاعتزال نهائيًّا ليتفرغ للسياسة، وهو ما أدى بالبعض أن يرجح أن يصبح كاسباروف المنافس للرئيس بوتين في الانتخابات الرئاسية القادمة.
قواعد اللعبة
يؤكد كاسباروف على ثلاث قواعد أساسية يجب اتباعها أثناء اللعب، وهي كالتالي:
أولاً: لا تستخف بقدرات خصمك أبدًا، فإذا شعرت بأن تحركاته تدعوك إلى الاستخفاف به، فاطرح عنك هذا الخاطر فورًا وتصرف بشكل مناقض له، فمن المؤكد أن خصمك يُعِدّ لتحركات أكثر دهاء مما يبدو عليه الأمر بالنسبة لك.
ثانيًا: ابدأ بالتفوق السيكولوجي (النفسي) دومًا، ويؤكد على أن خسارته أمام فلاديمير كرامينك عام 2000 كان سببها التفوق النفسي فقد كانت تحركاته وأداؤه جديدة بالنسبة لكاسباروف، مما أفقده التوازن على الفور وسبب الهزيمة.
ثالثًا: فكّر كالخصم وضع نفسك مكانه، فأول خطوة لكسب الخصم تكمن في فهم لعبه وكشف الشراك التي ينصبها لك.
ومن هنا يتضح أن لعبة الشطرنج لا تقتصر على المنافسة الذهنية وحدها، بل والمنافسة السيكولوجية التي هي أهم بكثير، فأثناء اللعب قد يصيبك اليأس من إحساسك بقوة تحركات خصمك وضعف تحركاتك، فيهبط تفوقك النفسي بشدة مما يجعلك تخسر شيئًا فشيئًا، فالخسارة في الشطرنج تبدأ أولاً على المستوى السيكولوجي قبل الذهني.
ويحاول كاسباروف جمع خبراته ورؤيته للشطرنج في كتاب كبير بعنوان "عباقرة الشطرنج السابقون"، وفيه يستعرض تاريخ تطور التفكير الإستراتيجي في الشطرنج من خلال تقديم خطط وأفكار عباقرة وأبطال العالم في فترة المائتي عام السابقة. وخلال تحليله لخطط لعب كثير من هؤلاء العباقرة وجد أن لحظات العبقرية أشد اللحظات احتدامًا في المباراة، وهي اللحظات التي كانوا يضطرون فيها إلى التخلي عن التفكير التحليلي الواعي ويلجئون إلى التفكير الحدسي اللاواعي.
الأكثر من هذا أنه عندما انقضت هذه اللحظات المحتدمة وجلس نفس اللاعبين بكل ارتخاء لرسم تحركاتهم بغرض إعدادها للنشر والتدوين كانوا يخطئون فيها ويعجز بعضهم عن التوصل إليها بنفس السرعة التي خبروها أثناء اللعب تحت الضغط؛ وذلك يثبت أن ذكاء الإنسان يشتد ويصل إلى الذروة لا في مواقف الراحة والارتخاء، بل في مواقف الشدة والاستثناء النفسي.
معركة مع "ديب بلو"
المباراة مع الكمبيوتر الخارق "ديب بلو" كانت تجربة علمية مثمرة بالنسبة لكاسباروف تمنى كثيرًا القيام بها، فالشطرنج نقطة التقاء بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي، وأدرك من خلالها إمكانية التفوق على الذكاء الاصطناعي، ولكن لا بد من توفر شرطيين أساسيين: يتلخص الشرط الأول في غياب هامش الخطأ لدى الذكاء البشري، ولكن الحقيقة هي أن هامش الخطأ يمثل جزءًا كبيرًا من الذكاء البشري الذي يعتمد على حرية الاختيار والإرادة الحرة للإنسان.
وأما الشرط الثاني فهو أن تتركز كل قدرات الإنسان الذهنية على المباراة التي يجريها مع الذكاء الاصطناعي وحدها، وهذا لا يحدث في أغلب الأحيان؛ وبالتالي تكون المباراة بينهما غير عادلة لصعوبة توفر الشرطيين السابقين فهناك فرق كبير بين ذكاء الكائنات الحية التي ينتمي لها الإنسان والذكاء الاصطناعي، فذكاء الحيوان على سبيل المثال يحركه توقع المكافأة وتجنب الألم، وكذلك جزء كبير جدًّا من ذكاء الإنسان فهو ذكاء نفعي أو وسيلي يسعى لغاية أهم منه.
أما ذكاء الآلات فلا يتأثر بالمكافأة ولا الأمل، بل هو ذكاء ميكانيكي، أي أنه لا يسعى لأي غاية فهو وسيلة وغاية في حد ذاته، فذكاء الآلات يقوم على السرعة وهي سرعة إجراء العمليات الحسابية.
فأنت كلاعب تفكر في مستقبلك وعملك ومحاضراتك وجمهورك وغيرها مما يشتت ذهنك ويقلص تركيزك؛ لذا فالأمر اختلف في المباراة مع "ديب بلو" التي حضرها 72 مليون زائر على شبكة الإنترنت مما أثر بشكل مباشر على كاسباروف، أما الكمبيوتر فهذا الجمهور لا يعني له أي شيء، ولكنه كان من أسباب السرور للشركة المنتجة "آي بي إم" لما له من آثار إيجابية طيبة على منتجاتها.
النموذج الأمثل للمنافسة
لعبة الشطرنج هي نموذج المنافسة بامتياز ففيها يتقلص دور الحظ لأدنى حد، وتصبح اللعبة منافسة ضارية بين ذكاء طرفي اللعبة؛ لذا أصبح الشطرنج اللعبة المناسبة؛ لتكون ميدانًا للمنافسة بين قدرات الذكاء البشري والصناعي.
ويؤكد كاسباروف على إمكانية الانتصار على "ديب بلو" في أي مباراة قادمة، ففي النهاية ليس سوى عملية حسابية هائلة كما يصفها، ويؤكد على تفوق الذكاء البشري، فبعد الهزيمة ارتفعت أسهم شركة "آي بي إم" بمعدل هائل وهو ما أنقذ الشركة من الإفلاس، وهذا كان هو الهدف الحقيقي من المباراة، ففي النهاية فاز الذكاء البشري. كما أن ديب بلو أُتيحت له فرصة التغذية بكل المعلومات الخاصة بكاسباروف من حيث طريقة اللعب والمعلومات الخاصة بالمباريات السابقة، وهذا ما لم يكن متاحًا لكاسباروف، وبالتالي فالمباراة لم تكن عادلة على أية حال من الأحوال، ولكنها تبقى في النهاية تجربة ممتعة ومثمرة تصب في خبرات كاسباروف عازف الشطرنج.
على رقعة السياسة
وأخيرًا.. وبعد أن بلغ من العمر 42 عامًا قرّر كاسباروف دخول العمل السياسي والتصدي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي اتهمه بالسعي لتكريس الحكم مدى الحياة، إضافة إلى عدم وفائه بوعود تحسين المعيشة وإنهاء حرب الشيشان.
وأسس كاسباروف لنفسه حركة سياسية أطلق عليها "الجبهة المدنية الموحدة"، قال: إن "إستراتجيتها هي ألا تخسر في الوقت الراهن وألا يقتل شاهها، بل أن تستمر في الوجود"، وسيكون تكتيكها هو الإضرابات والاحتجاجات لا دخول الانتخابات. حيث يرغب أولاً في توحيد كل الناشطين الذين يرون أن نظام بوتين هو الخطر الأكبر على روسيا ويريدون تحويل انتخابات 2008 الرئاسية إلى سباق نزيه وشفاف.
ورغم تسيد كاسباروف بطلاً للعالم في الشطرنج ثمانية أعوام على التوالي فإن رقعة الشطرنج السياسية تختلف، ففي أثناء جولاته في القوقاز تصدى له البعض ورماه بالبيض والطماطم في أوسيتيا الشمالية، واتهم كاسباروف السلطات الروسية بتدبير الأحداث، ولكن الأمر في النهاية تحصيل حاصل لكاسباروف فهو في النهاية لن يحصل على شعبية الروس بسبب أصله اليهودي الأرميني، خاصة مع بلد يشهد صعود التيار القومي الذي بات يسيطر على 10% من مقاعد البرلمان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق