الاثنين، 22 ديسمبر 2008

إبراهيم شكري.. الاشتراكي المجاهد

تبدو حياة السياسي المصري إبراهيم محمود شكري كما من المتناقضات، فهو اشتراكي وابن لأحد كبار الملاك وموظفي الدولة المصرية، واشتراكي يتبنى الخط الإسلامي، مجاهد في ميدان السياسة لمناصرة الفقراء ومكافحة الفساد، عاش ما يقرب من تسعة عقود تعاقب على مصر في حياته تغيرات كثيرة وأنظمة وأيديولوجيات، لكن خطابه السياسي كان كما هو يمسك بقضايا الوطن والدين والهوية، تلك الكلمات التي جعلت حضوره السياسي طازجا دائما.
ترك إبراهيم شكري بصمات كبيرة وواضحة منذ انخراطه في ساحة العمل السياسي المصري، ويعد من الشخصيات التي تحظى بإجماع وطني واحترام من كل ألوان الطيف السياسي لما تمتع به من حضور كاريزمي وصفات شخصية جعلته يقود حزب العمل المعارض ببراعة في المعارك السياسية ويخرج منتصرا في معظمها، بعد أن قاد، من قبل، تحويل الحزب من الاتجاه الاشتراكي إلي الاتجاه الإسلامي في الثمانينيات في نقطة تحول فاصلة رفعت من شعبيته ومصداقيته وقدرته على تحريك الشارع السياسي.
النشـأة والتعليـم
ولد إبراهيم شكري في (22 سبتمبر 1916 م) بالقاهرة لأسرة ثرية وعريقة في مدينة شربين بمحافظة الدقهلية، ووالدته هي زينب واصف، أما والده فهو محمود (باشا) شكري الذي كان يشغل ناظر الخاصة الملكية، ثم مدير عام بنك التسليف الزراعي، ثم مدير عام شركة شيلي للأسمدة الكيماوية، ثم ناظر الأميرة شويكار الزوجة السابقة للملك فؤاد.
وإلى جانب تولي الوالد تلك المناصب فقد كان يملك أراضي زراعية واسعة بمركز شربين بمديرية الغربية وقتذاك، ولذا فإبراهيم هو ابن رجل من كبار الملاك الزراعيين المتغيبين عن الريف الذين جمعوا بين ملكية الأرض والوظائف العامة وإن كانت علاقتهم بالريف لم تنقطع.
تلقى تعليمه في المدارس المختلفة حتى التحق بكلية الزراعة التي تخرج فيها عام 1939 وأثناء دراسته الجامعية انجذب لحزب مصر الفتاة الذي كان متأثراً بالأفكار القومية في ألمانيا وإيطاليا ولكنه لم ينخلع من العروبة والإسلام حيث كان يطلق على أعضاءه لقب المجاهدين ، ومن هنا اكتسب لقبه الذي عرف به دائماً.
والسؤال الذي ظل مطروحاً هو: لماذا انجذب بن العائلة الثرية إلى هذا الحزب القومي ؟
والسبب الرئيس يكمن في تركيز الحزب على (المشكلة الاجتماعية) ورفعه شعار (العدالة الاجتماعية) في وقت كانت تتكرر فيه الأزمات للطبقات الكادحة وخصوصا الفلاحين والعمال حيث كان يسرق حقوقهم نفر من الأجانب ونفر من الأغنياء!.
أما السبب الآخر فيتمثل في قيام حزب مصر الفتاة بالتصدي للامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة كمدخل للهجوم على الاحتلال والدعوة إلى الثورة عليه وإخراجه من البلاد بالقوة
المشاركـة في الجهـاد
اختار إبراهيم الشاب السباحة ضد التيار والانضمام لحزب له أعداء أقوياء نجحوا في تصويره بالفاشية وسمات سلبية أخرى عديدة! لكنه اعتبر أن مصر الفتاة كان بمثابة احتجاج على اهتزاز الحياة السياسية بفعل تطاحن الأحزاب وتدخل الإنجليز، والأزمات الاقتصادية التي كانت تعصف بالطبقات الكادحة، آملاً من خلاله في تغيير الوضع الاجتماعي الذي ساده قله من الأجانب والمصريين الذين يحتكرون الأرض والمصانع والشركات.
وكان له وهو طالب في الجامعة دور بارز في النشاط الطلابي فكان من بين طلاب مصر الفتاة الذين رفعوا شعاره: "مصر فوق الجميع" أثناء مظاهرات الطلبة ضد الاحتلال في عيد الجهاد 13 نوفمبر 1935 وأصيب وقتذاك بإصابات بالغة جدا ولكن أجريت له عدة جراحات أنقذت حياته.
وشارك في هذه الفترة في أنشطة طلابية حزبية مثل: الدعوة ليوم جامعي خاص بفلسطين ونصرة المجاهدين، والدعوة لمقاطعة اليهود والتوعية بمخاطر الهجرات اليهودية إلى فلسطين، كما كان أحد أعضاء اللجنة التنفيذية لطلبة الحزب التي تحركت على مستوى الجامعات والأزهر مما ساهم في فوز مرشحي (مصر الفتاة) بأغلبية أصوات الطلاب في انتخابات جامعة القاهرة عام 1937.
وفي ذلك العام تولى أيضا أحد فرق الفيلق الذي شكله الحزب وتكون من أربعة ألوية (يضم كل لواء 768 مجاهداً)، وبعد تخرجه، كان إبراهيم أحد أعضاء مجلس الجهاد، ثاني أعلى هيئة بحزب مصر الفتاة، والذي كان منوطا به رسم سياسة الحزب وتوسيع قاعدته الاجتماعية.
كما كان واحداً من الذين يتبنون الاتجاه الإسلامي في حزب مصر الفتاة والذي كان يدعو إلى ضم جهود مصر الفتاة وجهود جماعة الإخوان المسلمين ورغم أن ذلك لم يحدث إلا أن الطرفان سعيا إلى أن تسود روح المودة علاقتهما.
نصـرة الفقـراء
نشأ إبراهيم في كنف فئة اجتماعية إلا أنه لم يعتنق أفكارها ولم يدافع عن مصالحها بأي شكل من الأشكال... وظهر ذلك عندما ترك حياة الرفاهية في بيت أسرته بالقاهرة، وفضل أن يعيش وسط جموع الفلاحين في بلدته "شربين"، وكان أول مشروع يقدمه لأهالي قريته هو إنشاء مدرسة وجمعية تعاونية تقدم السلع للمواطنين بأسعار زهيدة كما أدخل الكهرباء إلى قريته والقرى المجاورة.
ثم ظهر ذلك بعد أن أصبح نائبا في مجلس النواب 1949 عن بلدته شربين حيث تقدم باقتراح في العام التالي يطالب فيه بتحديد الملكية بخمسين فدانا وهو ابن رجل من كبار الملاك الزراعيين ولعل في هذا الاقتراح مساسا بملكيته الشخصية ورغم ذلك فقد كان متحمسا للأخذ به.
وظهر أيضا عندما سجن بسبب مقالة له في جريدة (الاشتراكية) قال فيها:" إننا نرى أن وجودنا في السجون للدفاع عن حرية الشعب، هو أحسن وأفضل من أي نزهة نقضيها على أفخر يخت في العالم"، وهو ما أعتبر وقتها تلميحا ليخت الملك فاروق، فخر البحار، و حكم عليه بالسجن سبع أشهر بتهمة تحبيذ العيب في الذات الملكية.
وخرج من السجن في 27 يوليو 1952، إثر اندلاع ثورة الضباط الأحرار، فغادر السجن لمقابلة اللواء محمد نجيب والرئيس جمال عبد الناصر واستمر على نهجه في الدفاع عن الفقراء، فكان من أوائل المنادين بالإصلاح الزراعي وبعد أن توفي والده ترك له أراضي زراعية تزيد على المائة فدان فطبقت عليه قوانين الإصلاح الزراعي عام 1969.
وفي تلك الفترة انتخب عضوا في مجلس الأمة أكثر من مرة وشغل عدة مناصب عامة أهمها: أمين الاتحاد الاشتراكي بالدقهلية (1964 - 1971)، رئيس نقابة الزراعيين (1964 - 1971)، أمين المهنيين في الاتحاد الاشتراكي (1971 – 1976)، محافظ الوادي الجديد (1974 - 1976)، عضو بمجلس الشعب ورئيس لجنة الزراعة بالمجلس (1976 – 1978)، ووزير الزراعة (1977- 1978).
حسـم الهويـة
وفي العام 1978 شكل إبراهيم حزب العمل الاشتراكي بمباركة شخصية وتوصية من الرئيس أنور السادات الذي أمر 30 من أعضاء حزبه الحاكم في ذلك الوقت (مصر العربي الاشتراكي) بالانضمام إلى الحزب والتوقيع على وثيقة تأسيسه.
ووجد إبراهيم في هذا الأمر فرصة سانحة لإحياء فكر مصر الفتاة، فاستقال من منصبه كوزير للزراعة معلناً برنامج الحزب في 9 سبتمبر 1978 وتبنى خط الدفاع عن الفقراء من أبناء مصر.
ومنذ تأسيسه تعرض حزب العمل لانشقاقين كبيرين أثرا على هويته الفكرية والسياسية فلم يمض عام واحد منذ إعلان برنامج الحزب الذي كان يوصف بأنه (حزب خرج من تحت عباءة الحكومة) حتى تعرض للانشقاق الأول عام 1979 عندما قام مؤيدو الرئيس السادات بتقديم استقالات جماعية على خلفية معارضة إبراهيم وحزب العمل لاتفاقيات السلام مع دولة الاحتلال.
ومنذ ذلك الوقت بدأ الطابع المعارض لحزب العمل يتعمق حيث أصبح رفض اتفاقيات السلام والتطبيع ثم معارضة سياسات الانفتاح والخصخصة انطلاقا من المبادئ الاشتراكية من أهم المبادئ التي تبناها حزب العمل.
ثم حدث الانشقاق الآخر بخروج عدد من الأعضاء الاشتراكيين مما أدى إلى حسم الهوية الإسلامية للحزب وفتح الطريق لانضمام عضوية جديدة له أواخر عقد الثمانينيات وذلك بعد فترة قصيرة من انطلاق التحالف بين حزبي العمل والأحرار مع جماعة الإخوان المسلمين والحصول علي عدد كبير من المقاعد في الانتخابات البرلمانية عام 1987.
وأعلن حزب العمل تبنيه شعار (الإسلام هو الحل) رسميًّا في مؤتمر الحزب الخامس عام 1989، وشرح إبراهيم هذا التحول الأيديولوجي، بالقول إن ما يحصل ليس تغييرا في توجه الحزب، وإنما عودة به إلى الأصول، إذ كانت جماعة مصر الفتاة، التي يُعتبَر حزب العمل امتدادا لها، تتبنى الفكرة الإسلامية والقومية معا.
معارك ضد الفساد
ومنذ ذلك الحين بدأ حزب العمل بقيادة إبراهيم شكري في الدخول في تحالف وثيق مع جماعة الإخوان المسلمين، أكبر حركات المعارضة السياسية في البلاد، وطرح رؤى إسلامية للقضايا الداخلية والعربية والدولية مما أدى لإغضاب السلطات، ودفع أطرافا في الحكومة منذ ذلك الوقت المبكر بالتفكير في تبني خطط لحله.
ولم ينهج الحزب سياسة خارجية معارضة للحكومة فقط تتمثل في التقارب مع العراق وليبيا والدعوة لاتحاد مصري سوداني ليبي وإنما نجح أيضا في قيادة الرأي العام من خلال المعارك الضارية التي شنتها الصحيفة الناطقة باسمه – الشعب - علي عدد من وزراء الحكومة بينهم وزيران للداخلية (تم عزلهما) ووزير للبترول ووزير للزراعة.
وكانت آخر تلك المعارك مع وزير الثقافة في الأزمة الشهيرة المعروفة بعنوان: "وليمة لأعشاب البحر" والتي على إثرها قررت لجنة شئون الأحزاب خلال شهر مايو 2000 تجميد الحزب بدعوى وجود خلاف على رئاسته رغم أن الأمر أن أزمة رئاسة حزب العمل كانت أزمة مفتعلة بدأت بذلك القرار ثم انتهت بقرار آخر من نفس اللجنة بوقف إصدار صحف الحزب ووقف نشاطه.
وأثناء محاولات تسوية الأزمة مع السلطات أكد إبراهيم على أن توجُّه الحزب إسلامي منذ نشأته، ولم يتغير كما يحاول البعض الإيحاء بذلك من أجل تقديم الدليل على انحراف الحزب عن أهدافه رافضا الشروط الحكومية لإعادة الحزب إلى الحياة السياسية وعلى رأسها: إبعاد عادل حسين، الأمين العام للحزب ومعه مجدي أحمد حسين، رئيس تحرير "الشعب" وقتذاك.
ورغم حصوله على حوالي 12 حكماً قضائياً بعودة الحزب وصحيفته إلا أن إبراهيم لم يستطع تنفيذ أي منها قائلاً: "لقد فعلنا كل ما هو قانوني حتى يعود الحزب إلى ساحة العمل السياسي... ولكن يبدو أن الأمور تدار بطرق لا نعرفها، ولم نعد قادرين علي التعامل معها"!.
وكان عمره أثناء تلك المعركة المفتعلة التي أطاحت بالحزب إلى خارج الساحة السياسية حوالي 84 عاماً لكن نضاله السياسي لم يتوقف حيث شارك في العديد من الفعاليات المقامة حول الاستبداد والفساد والهجمة الإمبريالية الصهيونية، وذهب إلى الأزهر والجامعة والنقابات وغيرها من أجل الدعوة إلى العدل الاجتماعي واستقلال الإرادة الوطنية حتى وافته المنية صبيحة الثلاثاء الرابع من أغسطس 2008م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق